مقال لم ينشر من قبل.
تونس في 13 أوت 2018.
رغم بعد المسافات إلا أن كل من الطيب صالح ونجيب محفوظ عاش الحلم العربي تماما كما عايش الخيبات العربية. كان لهذا تأثير كبير على الرجلين في صقل موهبتهما وخاصة في اختيار الدرب الذي سيسلكونه فيما بعد. فاختار صالح الواقعية الصادمة تارة والسحرية تارة أخرى فيما اتجه محفوظ إلى الواقعية الرمزية.
حين ندخل عالم الطيب صالح أول ما يصادفنا رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال" التي جسدت معاناة العرب في بحثهم عن هوية جديدة بعد النكبات التي توالت عليهم وبعد موجات الاحباط التي تتالت مع كل شبر أرض وسلام ضائعين. لكننا لن نغوص كثيرا فأعماله قليلة. قلَتها جعلتها كالأحجار الثمينة ٬ قليلة في العدد ٬ عظيمة في المحتوى. ندرة تجعلنا نذهب بخيالنا إلى أبعد من الروايات فنسبح في نيل صالح ٬ نستأنس بمريود فتأخذنا النشوة ونصيح "زوديني... زوديني" فتأبى مَلَكة صالح الاستجابة. ويغيب عنا إلاَ بما تبقَى من كلماته الخالدة...
بقدر ما كان محفوظ طائيَا فأغدقنا بكمٍَ هائل من الروايات والأفلام والمسلسلات التي دخلت كل بيت من المحيط إلى الخليج. بقدر ما كان صالح شحيحا فاكتفى بالقليل عددا٬ العظيم شأنا. محفوظ كان فيلسوفا رغما عنه ٬ سكنه هوس الفلسفة رغم أنه خيَر الأدب فانجرَ طوعا ليخلَد لنا الشحاذ والثلاثية وأولاد حارتنا ذات الجدل القائم دوما. طبعا أحسن وأهم عمل قدَمه محفوظ لمصر والعالم كان رواية "أولاد حارتنا". الرواية التي اعتبرت أحد أسباب حصوله على جائزة نوبل. لمست الرواية نقطتين من الثالوث المحرَم "السياسة والدين". هذا ما جعلها تحظى بالاهتمام العالمي خاصة بعد منعها في مصر وتكفير محفوظ. جرأته في تناول الذات الإلهية وفي تصريحاته السياسية حيث كان ممن أيَد علنا اتفاقية السلام متفاديا ابداء رأيه صراحة في مسألة التطبيع ٬ هو الذي تمت ترجمة العديد من أعماله للَغة العبرية كانوا من بين العوامل التي حولت نوبل لجهته. يعيدنا هذا التحليل إلى المقاربة والمقارنة مع الطيب صالح الذي لا يقلَ جرأة عن نجيب محفوظ بل يكاد يفوقه في تعاطيه لبعض المواضيع الواقعية وإيصال الصورة الروائية كما لو كنت جزءا منها لا قارئا لها. فيحظى صالح بلقب "عبقري الرواية العربية" بلا منازع ٬ لكنه يغيب أو يخيَر الغياب عن الأضواء. ويخير الزهد وعدم السباحة مع التيار فيبعد عن رادار الجوائز العالمية ويحصل العبقري الذي ترجمت أعماله إلى ما يقارب 19 لغة على جائزتين عربيتين فقط.
الطيب صالح كما محفوظ تطرق من خلال واقعية رواياته إلى نقطتين من الثالوث المحرم لكنه آثر الجنس عن الدين. بالإضافة إلى السياسة لم يتردد في الحديث بكل جرأة في موضوع الجنس ٬ الأمر الذي جعل بعض المقاطع من روايته يحذف لجرأتها. شاع صيته واشتهرت جرأته لدرجة منع روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" في بعض الدول العربية من بينهم بلده السودان وتطبيق مقص الرقابة عليها في دول أخرى (مثل تونس). تلك الرواية التي اعتبرت أفضل رواية عربية في القرن العشرين هي بلا شك واحدة من أفضل الروايات في العالم.
تطرق صالح في هذه الرواية إلى عدة مواضيع بيَن من خلالها القضايا السياسية والاجتماعية كما لم ينس البعد الفكري والنفسي وخاصة دور المرأة في المجتمع القروي. لكنّ أبرز محور في هذه الرواية كان تسليط الضوء على تصارع الحضارات والصدمات التي يعيشها الانسان المستَعمَر حين يلتقي بالمستَعمِر فتضفو العقد النفسية والصراعات والعنف والشجن كلها في قالب واحد. جسَد بعظمة واتقان كل ذلك التخبّط في شخصية مصطفى سعيد الذي يخيّل إلينا أن صالح كان في صراع دامٍ خلال كتابة الرواية لكبت جموح هذه الشخصية العتيّة.
ونعود لمقاربتنا بين المبدعين فنجد أن نجيب محفوظ كان قليل السفر فتمثّل العالم بالنسبة له في الحارة بينما كان صالح كثير الترحال فجاب العالم وعاش بين الجنوب تارة وبين الشمال تارة أخرى فنقل لنا العالم مجسدا في الحاج أحمد بجذوره الجنوبية وثقافته الشرقية وفي المقابل نجده لا ينسى مصطفى سعيد بكل عنفوانه وغموضه وفلسفته التي تأرجحت بين الفحولة التي جاءت بديلا للاستعمار والصراع من أجل البقاء.
"يا للسخرية.. الإنسان لمجرد أنه خلق عند خط الاستواء ٬ بعض المجانين يعتبرونه عبدا وبعضهم يعتبره إلها. أين الاعتدال؟! أين الاستواء؟!" من خطّ هذه الكلمات لم يحظى برضا الغرب عن روايته التي جمعت وقاربت بين التاريخ والحداثة ٬ الحضارة العربية الاسلامية والتمدن الأوروبي.
الحديث في موضوع الذات الإلهية من خلال شخصية عرفة لدى نجيب محفوظ قابله صراع الحضارات من خلال الحاج أحمد أو "الكيان العتيق" لدى صالح. في المجمل كلاهما قدَما فكرا واقعيا مختلفا للقارئ العربي وثروة قيَمة للانسانية جمعاء.
عظيم صالح في المواضيع التي رواه٬ مبهر في اللغة التي استخدمها وفي الصور التي رسَخها في أذهاننا ذاك الجنوبي الذي هاجر إلى صقيع الشمال ليغدق العالم بشمسه القاسية. اسمه خُلََد في الذاكرة العربية والافريقية والعالمية جنبا إلى جنب مع جبران خليل جبران. لكنّ هذا لم يشفع لعبقري الرواية أن يكرّم بجائزة نوبل فهو القادم من بلاد السودان والفخور بثقافته القروية والمعاد للاستعمار وبقاياه. هو الزاهد في الشهرة القائل أنّ "قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر" ٬ بعده عن الأضواء وتواضعه الكبير لعبا أيضا دورا هاما في استبعاده من نوبل وغيرها من الجوائز.
نعم استحق الطيب صالح جائزة نوبل للأدب لكنّ نجومية نجيب محفوظ المقترنة بالسينما وحنكته السياسية لعبتا دورا هامَا في حصوله عليها.
نشرالمقال في 30 سبتمبر 2016 في موقع إعلام.
في هذه الأيام نرحب برواية مصائر التي تربعت على عرش البوكر لسنة 2016. نسمع أيضا خبر تكليف المدير القادم لمعرض تونس الدولي للكتاب ٬ شكري المبخوت ٬ مدير الجامعة التونسية. لكن هل نكتفي بتعريفه بمنصبه هذا وقد تحدثتا عن جائزة البوكر العربية ؟ طبعا لا. المبخوت اكتسب شهرة واسعة من كتابه الأول "الطلياني" الحائز على الجائزة العالمية للرواية العربية ـ البوكر لسنة 2015.
حين عم الخبر الإعلام التونسي والعربي٬ اقتنيت الرواية مسرعة كي لا تنفذ من السوق٬ هجرتها في الصفحة الثامنة عشر حين لم أجد الإجابة على الحادثة الأولى التي هزت الحي والتي لم تسمح لواجب العزاء أن يكتمل. أحببت الطابع التونسي والكلمات الدارجة المبعثرة هنا وهناك لكن هذا لم يكن كافيا فقد مللت وهجرتها سريعا.
عدت للرواية بعد سنة أو أقل قليلا. السبب يعود إلى مهرجان الامارات للآداب ٬ حين أتاني أحد زملاء العمل يسألني رأيي في الرواية ٬ إن كنت قد قرأت الرواية المنافسة لها "شوق الدرويش" وما كانت ردت فعل الاعلام في تونس حين فازت "الطلياني" بالبوكر السنة الفارطة. توني كالدربنك زميلي كان يستعد لمناقشة الكتاب في إحدى جلسات المهرجان مع المتنافسين حمور زيادة وشكري المبخوت.
ما كان لي إلا أن أعود للرواية لأتمعن فيها وقد وعدت زميلي بأن أعطيه رأيي بالتفصيل.
من الصفحة الأولى يبدأ المبخوت بسنٍ قانونه وهو يصف الزي التونسي ويقارن بين التونسي الأصيل وأبناء الجيل الجديد المتمرد، جيل الجمهورية الأولى. موت الحاج محمود صاحب الوقار الذي يحل ضيفا في الرواية و"الزوفري" (بمعنى العامل) ابنه الملقب بالطلياني بطل الرواية. صراع الأجيال ليس المسألة الطاغية على الرواية.
"عبد الناصر الطلياني ضرب الإمام." الحادثة التي تدور حولها الرواية، حيث أن الكاتب يحاول تقديم شخصية الطلياني عبر الأحداث المتتالية والقرارات "الطفولية" التي اتخذها في وقت سابق. الكل يتهمه بالفسق والفجور٬ الكتب التي قرأها والظاهر من الدين الذي هجره. قد تصل بعض الشخصيات إلى وصفه بالشعبوي. لكن الطلياني الذي يرويه المبخوت على لسان صديقه شخص آخر يعيش صراعات أخرى.
استعمل المبخوت العربية التونسية السلسة بالنسبة للعربية الفصحى. عرَى المجتمع التونسي بجل طبقاته ومؤسساته تماما. جسد فترة من تاريخ تونس المسكوت عنه٬ الحركة السياسية في الجامعة التونسية، التحرك الطلابي والاتحاد العام التونسي للشغل أحداث الخبز، طريق 'الوزير الأكبر'، الصراع بين حلم الاشتراكية، وتغلغل الرأسمالية. لم تخلو الحوارات من صورة الشخصيات الشرقية رغم أن شخصيات الطلياني بُنيت على فرضية أنه ليس رجعيا بل تحرري منحل.
الأحداث تقدم المرأة التونسية متحررة، مقارنة بنظيراتها العربيات، حيث أن أغلب النسوة كان شغلهن الشاغل التسلية٬ في حين أن زينة البربرية طموحة٬ جامحة٬ ناجحة. من خلالها يمر المبخوت على مسألة البربر المقموعين في تونس.
يستعمل المبخوت كلمة الفرنجة ليصل إلى القارئ المشرقي، أما بالنسبة للتونسيين، أكاد أجزم أنه لو استعمل كلمة "الرْوامة" أو "العكري" لكان حافظ على الطابع التونسي الذي بدأ به.
الصور التي نقلها شكري المبخوت من الرْبط "قلب مدينة تونس" ٬ كانت كالبلسم على قلبي تلك الرسائل المشفرة بين الأم والخالة ٬ تأليف القصص عن الحمل والأسرار بين نساء الحي الأكابر"النسوة الماكرات يصلحن الخطأ الشنيع" ليعطين شرعية لنسب وشكل الطلياني الذي لا يشبه أيا من أفراد أسرته. من القصص التي كانت تألفها النساء قديما٬ حكايات عن النساء اللاتي يحملن وينجبن بعد موت بعولتهن "أوه المسكينة من شدة حزنها على زوجها، نام الجنين في رحمها لأربع سنوات." والحالات كثيرة والحكايات لا تخلو من مكر النساء وسذاجة المتلقي. لم ينسى الراوي تلك الروائح التي تنبعث من المدينة، والتي جسدها في شخصية "للآ جنينة" التي وصفها المبخوت بروح الأرواح. رائحة السواك (المسواك) وقشور البرتقال المجفف، والقائمة تطول…
حملت الرواية عدة شخصيات مختلفة من الأمني الركيك إلى المناضل المتفاني. تتحدث عن بورقيبة وما فعله بالشعب ٬ من محو لشخصيتهم وتاريخهم كسياسته مع البربر حين منعهم من تحدث لغتهم وتسمية أبناءهم بأسماء غير عربية ـ في حين أن البعثيين يلومون نفس النظام بأنه ممن حاربوا العروبة والوحدة العربية٬ حتى تعامل السلطات الأمنية مع الاسلاميين وغيرهم (رائحة الخمر التي تنبعث من راكب التاكسي ليلا تكون دليل براءته). يلمح المبخوت إلى الدستوريين العائدين الآن في جُبَة البورقيبيين عبر شخصية رئيس التحرير الذي يرى أن بورقيبة زعيم جيد لكن تنقصه الديمقراطية.
حين بدأت في قراءة الفصل الرابع "رواق الوجع والألم"٬ عاودتني المشاعر والأحاسيس التي عشناها أيام ثورة جانفي ـ يناير 2011. تحالف المزالي مع الخوانجية "الاسلاميين" ضد اليسار، استخدام الأمن للخادمات، سواقي التاكسي وغيرهم للاطاحة بالمعارضين والتضييق عليهم.
طرح الكاتب مشكلة الجهوية التي نعيشها في تونس عبرعلاقة الطلياني بزينة حين وقع رغما عنه في شرك المقارنة بين التصرفات التي يعتبرها عادية ، ما علَمته الحاجة زينب بألا يدخل البيت فارغ اليدين وبين زينة التي لا تحسب حسابه في أبسط الأشياء. ذهب بالوصف إلى إهمال الحبيبة لأبسط المستلزمات النسوية أو حتى لطريقة تعاملها معه. مما جعل الرجل الشرقي يستفيق ويضعف أمام إغراء من لم تهمل الأنثى فيها.
من العوامل الرئيسية التي قد تكون سببا لنجاح هذه الرواية هي الفترة الزمنية التي تدور الأحداث فيها. أواخر حكم بورقيبة، الانقلاب السلمي وبداية عهد بن علي. فترة كانت محرمة إلا للتابعين والمنافقين الذين لم يفقهوا سوى تمجيد الديكتاتورية.
في هذا السياق يقول توني كالدربنك: "من خلال الصراع البروليتاري الذي يعيشه البطلان٬ يعري لنا المبخوت الجانب المظلم من المجتمع التونسي٬ الفقر وفقدان الأمل٬ الاستغلال الجنسي والسطحية التي تطغى على الطبقة المثقفة. حتى تطور العلاقة بين الطلياني وحبيبته كانت تبرز هذه الجوانب٬ فالطلياني أصبح صحافيا أما زينة فأصبحت جامعية لكن حادثة التحرش أثرت على مستقبلها."
بعض البلدان قررت منع الرواية، قرار يفهمه من يقرأ الرواية. قد يرجع لأسباب سياسية أو لأسباب أخلاقية فقد يصنفها البعض ضمن روايات عبير فهي لا تخلو من مقاطع وصف للحب والمشاعر. المبخوت لم يمسك قلمه عن وصف ممارسة الحب بين الحبيبين والعاشقين. لكنه لم يقع في شراك سرد القصص الأسطورية السعيدة٬ فهو كما صرح لتوني كالدربنك "لا يحب قصص الحب السعيدة فهي مملة".
لمن يتابع المشهد السياسي التونسي، فإن شيئا لم يتغير منذ عهد التحول إلى عصر الثورة المباركة. فيقول الكاتب "سياسة الاصلاح الهيكلي أدت إلى كوارث.. الدولة تكاد تفلس.. البنك العالمي وصندوق النقد الدولي يتحكمان في كل شيء… وضرب الاتحاد الآن لا يمكن الكادحين والعمال وحتى الموظفين من أن يتنفسوا .. الوضع كارثي .. يمكن أن ينفجر في أي لحظة وهذا ما يعطي للإسلاميين فرصة الركوب على الحالة الثورية."
لم ينس أهم الفترات التي شهدتها البلاد التونسية وقت التحول المبارك حين أصبحت بيوت الله عامرة فجأة وصرح كبيرهم الذي علمهم السحر (في تلميح للشيخ الغنوشي) "ثقتي في الله ثم في بن علي". مثلما يجب علينا ألا ننسى كيف حبس بورقيبة الاسلاميين، علينا أن نتذكر عهدهم مع بن علي قبل أن يفتك بهم بعد الانتخابات الديمقراطية.
يصعب التصديق بأن الرواية هي أول ما كتب شكري المبخوت. الشخصيات تونسية بحتة في كل شيء في كل تصرف وتفكير. قد يكون هذا ما جعلني منحازة إلى فوز الرواية بالبوكر بدلا عن شوق الدرويش. أصنفها ضمن كتبي المفضلة على موقع goodreads. وأهديها لأصدقاءي العرب ضمن الكتب التي يستطعون قراءتها باللغة العربية عن تونس وشخصية التونسي. أتمنى أن أراها في عمل سينمائي قريبا. من ذكرياتي المضحكة مع هذه الرواية أنه حين كنت أقرأ الفصل الذي يتحدث فيه الطلياني عن الحرب في بيروت، كنت أزور تلك المدينة، أجوب شوارعها وألتقط صورا للمباني المتبقية من أيام الحرب الأهلية. وجدت الرواية - التونسية الوحيدة - في جل المكتبات اللبنانية في وسط المدينة.
في الحياة السياسية٬ في الحملات الانتخابية٬ كما في أي حدث جلل٬ تخضع تغطيته في كل المراحل إلى البحث والتنقيب عن المصادر الصحيحة والموثوقة وإلا تتعرض وسيلة الإعلام والصحفي إلى النقد اللاذع وتضيع المصداقية. يتأكَد الصحفي من المعلومة حسب نوع الخبر والمصدر المتأتي منه. مع تزايد نسبة الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي وما يعرف بالصحافة المجتمعية، تضع هذه المنصات عدة خدمات على ذمة المستخدمين للتأكد من المعلومات والبحث عنها. فيحتضن مثلا كل من موقع فايسبوك وتويتر محركات بحث تساعد في التحقق من المحتوى المحمَل عليهما٬ نفس الشيء بالنسبة للموسوعة الحرة ويكيبيديا. عادة ما يستعمل مستخدمي الانترنت ويكيبيديا كمصدر للمعلومة، ففي أكثر من مقالة صحفية يشار إلى معلومة ما على أنها متأتية من ويكيبيديا.ماهي مصادر المعلومات؟ كيف يمكن التثبت منها؟ هل نثق في كل ما ينشر؟ هل ويكيبيديا فعلا مصدر للمعلومة؟ هل نثق في موسوعة يكتب فيها ملايين الأشخاص من مختلف أنحاء العالم؟
بادئ من ذي بدء٬ يستوجب على الصحفي في المرحلة الأولى أن يستعمل محركات البحث المتخصصة للتأكد قبل نشر الخبر. هذا يساعد الصحفي في المساهمة في تصحيح المعلومات المغلوطة وخاصة الحفاظ على سمعته وسمعة المؤسسة التي يعمل بها. تقسَم أدوات التحقق من مصدر المعلومة حسب الصحفي الاستقصائي أحمد الشامي إلى أدوات تعتمد على تحديد المواقع الجغرافية وأدوات أخرى لتحديد التلاعب في الفيديو والصور وتحليلهم. يجب على الصحفي أن يفكر بطريقة ابداعية بحيث يصبح قادرا على التنقل بين جميع الأدوات المتاحة له لتأكيد أو تفنيد المعلومة.
بالنسبة للمواقع الجغرافية يمكن الاعتماد على أدوات سهلة ومعروفة للعموم مثل خدمة خرائط جوجل التي تقدم توجيهات لمعرفة الاتجاهات أو المسافات ووسائل النقل المتاحة وجوجل إيرث الذي يعطي صور حقيقية عن الشوارع والأماكن فبحيث تسمح هذه التكنولوجيا في التثبت من صحة فيديوهات أو صور الحوادث مثلا. بالنسبة للأدوات المتقدمة التي يعتمد عليها الصحافيين٬ ينصح الأستاذ الشامي بالمواقع التالية: ديول ماب (Dual Maps) الذي يقدم صور لخرائط عادية أو عمودية٬ موقع مابي لاري (Mapillary) الذي يستقبل فيديوهات من مستخدمي الانترنت ويساهم في إبراز أهمية المدن٬ هناك أيضا موقع ويكي مابيا (Wikimapia) الذي يعتمد على عدة محركات بحث ويقدم المعلومة عن المكان المطلوب من خلال مقالات ويكيبيديا بلغة البحث التي يستعملها المستخدم (عربية٬ انجليزية٬ فرنسية٬...). ومن أهم الأدوات موقع لايف ماب (Live Map) الذي ينقل مباشرة ما يحدث خاصة في مناطق النزاع المسلح. وموقع سان كالك (suncalc) الذي يقوم بحساب الظل وتحديد وقت الفيديوأو الصورة بدقة.
أما بخصوص تحليل الفيديو مثلا فيضيف أستاذ الشامي "يوجد عدة منصات يمكن الاستعانة بها كموقع العفو الدولية لفحص فيديوهات اليوتيوب٬ أما بالنسبة للصور فكما يأكد خبراء الأمن الرقمي فإن أهم مصدر هو الميتا داتا أو البيانات الوصفية للصورة (المكان٬ التوقيت٬ الآلة المستخدمة٬ نظام تشغيل٬...).
أما عن المصادر المكتوبة فبعد الصحف٬ تتصدر ويكيبيديا القائمة. يأكد الأستاذ الشامي أن "ويكيبيديا وسيلة للبداية في البحث عن مصادر أي موضوع صحفي وليست مصدرا موثوقا نظرا لأنه تقنيا أي شخص يستطيع التعديل فيها وقد تحمل بعض المقالات بعد انحيازي إن كان كاتبها يميل للدفاع عن الشخص أو الموضوع المطروح." في عديد المرات اتهمت ويكيبيديا بالانحياز من قبل الإعلام٬رغم أن المحايدة أحد المبادئ الأساسية في الموسوعة.
من جهته يعتقد الصحفي عمرو العراقي ٬ مؤسس إنفو تايمز ٬ أن ويكيبيديا مصدر مهم للبيانات فمثلا بالنسبة للشخصيات العامة يمكن الاعتماد على صندوق البيانات واستخدام الكلمات المفتاحية. ويضيف العراقي أن اعتبار ويكيبيديا مصدرا لا ينفي عن الصحفي مهمة التثبت من صحة مصدره. "على عكس الكثير من الصحفيين، أعتبر ويكيبيديا مصدرا٬ لا أصنفه موثوقا أو غير موثوق وعلى الصحفي أن يتحقق من المعلومات والبيانات المتحصلة منها٬ مثلها مثل باقي المصادر."
كل من العراقي والشامي يؤكدان على أهمية استخدام ويكيبييديا في جمع البيانات والمعلومات الأوَلية لبناء العمل الصحفي والتحقق منها فيما بعد. بالنسبة لهم فإن عملية التأكد من الخبر لا تتم عن طريق ويكيبيديا أو ويكي بيانات وإنما باستخدام وسائل وأدوات أخرى تكون متقدمة ودقيقة. ويجدر الذكر أن موقع ويكي داتا أو ويكي بيانات هو مشروع شقيق لويكيبيديا تحتضنه مؤسسة ويكيميديا.
حسب ترتيب المواقع العالمية في ألكسا فإن ويكيبيديا تأتي في المرتبة الخامسة بمعدل بحثي يصل إلى 66٫70 %. ويبلغ عدد المقالات في ويكيبيديا (الانجليزية) 5.644.000 في حين يصل عدد المقالات في النسخة العربية إلى 574.000. الأمر الذي يجعل من الموسوعة مهمَة كما سبق الذكر. ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن ويكيبيديا تعتمد على المراجع في كل مقالاتها، كل معلومة تضاف في أي مقالة موجودة لا بد من أن يكون لها مصدر. عادة ما يخفى عن جمهور القرَاء ٬ متصفحي الانترنت والصحافيين ما يدور في خبايا عالم الموسوعة الحرة. كل ما يعرفونه أن أيَا كان يستطيع التعديل فيها٬ الأمر الصحيح٬ لكنَ التعديل يقتضي الاستناد على مراجع والالتزام بسياسة الموسوعة وإلا سيتم حذف التعديل من قبل إداريي الموقع. تقوم ويكيبيديا العربية على خمس ركائز أساسية تنظم الكتابة٬ المواضيع المطروحة٬ المراجع والعلاقة الرقمية بين المحررين. من قواعد الكتابة على الموسوعة٬ امكانية التحقق من المراجع والمصادر في كل مقالة مما يعطي القارئ الحق في التأكد من المعلومات الواردة٬ وطبعا تمكَن هذه السياسة من التحقق في الملكية الفكرية مثلا.
صوَت المجتمع الويكيبيدي العالمي في مارس آذار 2017 على حجب موقع الأخبار دايلي ميل باعتباره موقع ينشر الأخبار دون التأكد من صحَتها. كخطوة أولى لاقى الخبر استحسان المجتمع الويكيبيدي الذي يعمل على أساس المصادر الموثوقة، لكن الحجب لم يلاقى استحسان العديد من وسائل الإعلام التي عبرت عن استياءها لوجود مصادر أخرى تعرف بالبروباغندا لا تزال ضمن قائمة المراجع المصرح بها وآخرين انتقدوا الموسوعة باعتبارها مصدرا. بالنسبة للمجتمع الويكيبيدي العربي فإنه يعتمد أساسا على قائمة للمصادر الموثوق بها التي تساعد المحررين في التعديل والكتابة في الموسوعة العربية. تستوفي هذه المراجع شروط الملحوظية الموضوعة من قبل إداريً الموسوعة. إذا فهذه الموسوعة مفتوحة المصدر تخضع لضوابط تعرف بسياسات الموسوعة . يعمل على تفعيل ومراقبة هذه السياسات أكثر من 30 إداري ومئات المحررين الذين يمثلون المجتمع الويكيبيدي العربي.
ويؤكد لنا عباد ديرانية٬ المنسق العام لمجموعة ويكيميديا بلاد الشام٬ وأحد الإداريين، أهمية المراجع في الموسوعة الأكثر انتشارا في العالم والأكثر انتقادا: " ليس من الحكمة بمكانٍ تركُ كلِّ من هبَّ ودبَّ يعبثُ بمقالات موسوعة أصبحتِ المرجع الأول للمعلومة في عصرنا. لهذا السبب، تفرضُ ويكيبيديا قانوناً مشدداً جداً على كلّ إضافة تُضَاف إلى مقالاتها: وهي التوثيق بالمصادر. لو كنتَ تقرأ على ويكيبيديا كثيراً، فلعلَّك معتادٌ على ملاحظة الأرقام الصغيرة بين الأقواس المُربَّعة التي تتبعُ كلّ عبارة في مقالات الموسوعة. يمكنُ، باستخدام هذه الأرقام، للقارئ أن يجدَ المصدر الذي جاءت منه كلّ فقرة ومعلومة وكلمة في المقال الذي يقرؤه. صحيحٌ أن أيّ شخصٍ يستطيع الكتابة على ويكيبيديا، لكنه لا يستطيع كتابة أيّ 'شيء يريدهُ' عليها. هذه المصادر هي أكبرُ نقطة قوة في ويكيبيديا لأنها تمنعُ تزوير المعلومة: فهي ليست طريقة للقارئ للتأكّد من صحَّة ما يقرؤه فحسب، بل هي تجعله جزءاً من عملية تصحيح المعلومة". ويحثَ ديرانية قرَاء ويكيبيديا سواءا كانوا من الصحافيين أو مجرَد مستخدمي الموسوعة أن يراجعوا المصادر المرفقة وأن يساهموا بأنفسهم في نشر المعلومة الصحيحة بدل نقد الموسوعة ونعتها بغير الموثوقة وخاصة محاولة التشهير بها في مراقع التواصل الاجتماعي. في محاولة منه لنشر هذه الفكرة قام عباد ديرانية بنشر دليل مجاني للكتابة في الموسوعة الحرة بعنوان حكاية ويكيبيديا.
استنادا على كلام ديرانية٬ نجد أن المجتمع الويكيبيدي العربي أطلق سابقا مشروع لصيانة الموسوعة٬ كما وضع قائمة بالمصادر التي تستوفي شروط الملحوظية.
تعتمد ويكيبيديا على المصادر والمراجع في المعلومات المكتوبة، لكن المشكل قد يبرز حين يكون المصدر نفسه غير موثوق به. خلال مؤتمر الويكيبيديين والويكيميديين الأفارقة ويكي اندابا بتونس في مارس آذار 2018، تم تقديم اقتراح لحل مشاكل المصادر بإضافة وصلة في متصفح الانترنت لتكون في شكل إنذار (Alert Intox) لبقية محرري الموسوعة وطبعا أرشفة الخبر الصحفي المعني بالأمر لكي يتسنى للمجتمع الويكيبيدي تفادي المصادر الغير موثوقة. وتبقى معركة كشف التلاعب بالمصادر والأخبار الغير صحيحة متواصلة.
For my readings, comments and exchange, you can find me in the social network Goodreads.